جاري تحميل ... ورقة

مقالات رائجة

إعلان في أعلي التدوينة

بحث حول النحو العربي - أصول النحو ومدارسه



ملخص عن البحث
الهدف مِن خلال هذا البحثِ الموجَز إلى تقديم نظرة مُوجَزة حول نشأة علمٍ جليلٍ من العلوم العربية، ألا وهو علم النحو، وواضعه ومدارسه، وأبرز النحاة عبر التاريخ، وأبرز القضايا النَّحوية، وأثناء الخوض في هذا الموضوع تبادرت إلى الذهن أسئلة من قبيل:

لماذا وُضِع النحو؟ ومَن واضعه؟ وما أبرزُ المدارس النَّحْوية؟ وما أهمُّ القضايا النَّحْوية؟

والغاية مِن جمع هذه المادة وتصنيفِها بهذا الشكل المبسَّط، هي جعلُ هذه المعلومات والمعارف في متناوَل المتلقِّي البسيط والمتعلِّم، حول نشأة علم النحو العربي، وأرجو أن أكون مُوفَّقًا في اختيار الموضوع وتصنيف محاوره.

مقدمة:
كان العربُ يستعمِلون لسانَهم عن سليقةٍ لم يحتاجوا معها أن يُبينوا قواعدَ نظمِه، وبعد مجيء الإسلام ومخالطتِهم الأعاجمَ مالت ألسنتُهم إلى اللحن، والخروج عن أصول الكلام التي ورِثوها عن أسلافهم، فتسرَّب اللحن إلى لسانهم!

وحرصًا منهم على الحفاظِ على لسانهم المُبِين الذي اختاره الله عز وجل لسانًا للقرآن ووعاءً للرسالة الخاتمة - عمِلوا على وضعِ نحوٍ ينحوه كلُّ دخيل على اللسان ويلتزمه أبناء العربية.

يقول ابن خلدون في هذا الشأن: "إنَّه لَمَّا فسَدت مَلَكة اللسان العربي في الحركات المُسمَّاة - عند أهل النحو- بالإعراب استنبطت القوانين لحفظها كما قلناه، ثم استمر ذلك الفساد إلى موضوعات الألفاظ، فاستُعمل كثيرٌ مِن كلام العرب في غير موضوعه عندهم، ميولًا مع هُجْنَة المُستَعرِبين في اصطلاحاتهم المخالِفةِ لصريح العربية، فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللُّغوية بالكتاب والتدوين، خشيةَ الدروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث، فشعر كثيرٌ مِن أئمة اللسان بذلك وأملوا فيه الدواوين".

أضِفْ إلى هذا رغبةَ اللغويين في أن يلتحِقَ بهم غيرُ العرب في تعلُّم اللسان العربي؛ ليَسهُلَ عليهم التعامل مع كتاب الله عز وجل تلاوةً وفهمًا ودراسةً، فعكَف العلماء على دراسة أصواتها ومفرداتها ووصف تراكيبها وألفوا في ذلك كتبًا لضبطها وتقعيدها، ووضعوا القواعد التي تصف هذه اللسان وصفًا محكمًا و دقيقًا.

وقد انتهج علماء العربية للقيام بذلك منهجًا متميزًا في البحث اللغوي معتمِدين على ذوقِهم وإعمال العقل ودقة الملاحظة، وكان لهم فضلُ السَّبْق في الوقوف على كثيرٍ مِن الظواهر الصوتية والصرفية والنَّحْوية التي أفاد منها المحدثون.

أولا: نشأة النحو :

معنى النحو :

النحو في اللغة: القصد والاتجاه , وهو مصدر ( نحا ينحو ) إذا قصد , ويقال: نحا له , وأنحى له.

وفي الاصطلاح : هو انتحاء سمت كلام العرب في تصريفه من إعراب أوغيره.
وإنما سمي العلم بكيفية كلام العرب في إعرابه وبنائه ( نحوا ) لأن الغرض به أن يتحرى الإنسان في كلامه إعرابا وبناء طريقة العرب في ذلك.

أما تعريفه عند علماء اصطلاحات الفنون , فهو :
" علم مستنبط بالقياس والاستقراء من كلام العرب "

أسباب وضع علم النحو:
يمكن أن يعود وضع النحو العربي إلى بواعث مختلفة , منها الديني ومنها غير الديني :

أ – الباعث الديني:
و يرجع إلى الحرص الشديد على أداء نصوص الذكر الحكيم أداءً فصيحا سليما إلى أبعد حدود السلامة والفصاحة .خاصة بعد أن أخذ اللحن يشيع على الألسنة ,وكان قد أخذ في الظهور منذ حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فقد روى بعض الرواة أنه r سمع رجلاً يلحن في كلامه ؛ فقال : " أرشدوا أخاكم فإنه قد ضلّ ".

ورووا أيضًا :أنّ أحد ولاة عمر بن الخطاب كتب إليه كتابًا لحن فيه ؛ فكتب إليه عمر : " أن قنّع كاتبك سوطًا ".

غير أنّ اللحن في صدر الإسلام كان نادرًا , ولكن ازداد شيوعه على الألسنة بتقدم الزمن , خاصة بعد تعرّب شعوب الأقطار المفتوحة , التي كانت تحتفظ ألسنتها بكثير من عاداتها اللغوية.

ب - الباعث الثاني باعث قومي عربي:
يرجع إلى أن العرب يعتزون بلغتهم اعتزازًا شديدًا , وهو اعتزاز جعلهم يخشون عليها من الفساد , حين امتزجوا بالأعاجم ؛ مما جعلهم يحرصون على رسم أوضاعها خوفًا من الفناء و الذوبان في اللغات الأجنبية.

جـ - إلى جانب ذلك كانت هناك بواعث اجتماعية:
ترجع إلى أن الشعوب المستعربة أحست الحاجة الشديدة لمن يرسم لها أوضاع العربية في إعرابها وتصريفها ؛ حتى تتمثلها تمثلاً مستقيمًا , وتتقن النطق بأساليبها نطقًا سليمًا .

د- كما لابد أن نعقل رقي العقل العربي ونمو طاقاته الذهنية نموا أعدّه للنهوض برصد الظواهر اللغوية , وتسجيل الرسوم النحوية تسجيلاً تطرد فيه القواعد وتنتظم الألفاظ انتظامًا يهيئ لنشوء علم النحو , ووضع قوانينه الجامعة المشتقة من الاستقصاء الدقيق للعبارات والتراكيب الفصيحة ، ومن المعرفة بخواصها الإعرابية.

متى وأين كان وضعه ؟ 
وضع علم النحو كان في الصدر الأول للإسلام ؛ لأن علم النحو ككل قانون تتطلبه الحوادث , و تقتضيه الحاجات , ولم يكن قبل الإسلام ثمة سبب يحمل العرب على النظر إليه ؛ فإنهم في جاهليتهم غنيون عن تعرفه ؛ لأنهم كانوا ينطقون عن سليقة جبلوا عليها , بخلافهم بعد الإسلام ؛ إذ اختلطوا بالفرس والروم , وغيرهم ؛ فحلّ بلغتهم اللحن والفساد حتى هرعوا إلى وضع النحو.

وأول ما وُضع - كما سنعرف لاحقا - في العراق وتحديدًا في البصرة ؛ لأن العرب النازحين إليها كانوا من العرب الفصحاء الخلص , ولوقوعها على طرف البادية مما سهّل لعلمائها الاتصال بالأعراب الفصحاء , ثم لوجود سوق المربد قريبا منها , كما كانت ملتقى الأقوام من كل جنس , إلى جانب تفرّغ علماؤها لدرس كلام العرب , واستنباط أصوله وقوانينه , وكان القدماء يعرفون ذلك معرفة دقيقة , فنصوا عليه بعبارات مختلفة , من ذلك قول ابن سلام : " وكان لأهل البصرة في العربية قدمة ,وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية " ويصرح ابن النديم في هذا المجال تصريحًا أكثر وضوحًا , إذ يقول في حديثه عن نحاة الكوفة والبصرة :" إنما قدَّمنا البصريين أولا لأن علم العربية عنهم أُخذ ".

وضعه عربي محضّ :
حاول بعض المستشرقين أن يصلوا بين نشوء اللحن في البصرة والنحو السرياني واليوناني والهندي, وزعم بعض منهم أن وضعه ونشوؤه كان عربيًا خالصا لمواجهة الفساد اللغوي الناشئ واللحن الواقع , أمّا ما حدث فيه من تنظيم وتقسيم وتعريف وتعليل فكان منقولا عن اليونان .

والصواب أن علم النحو علم عربي خالص,ولا يمكن إثبات نقله عن أمة من الأمم إثباتا علميا ؛ خاصة أن النحو العربي يدور على نظرية العامل وهي لا توجد في أي نحو أجنبي . وكل ما يمكن أن يقال إنه ربما عرف نحاة البصرة الأولون أنّ لبعض اللغات لأجنبية نحوًا, فحاولوا أن يضعوا نحوًا للعربية , راجعين في ذلك إلى ملكاتهم العقلية التي كانت قد رقيت رقيًا بعيدًا بتأثير ما وقفوا عليه من الثقافات الأجنبية , خاصة الفلسفة اليونانية وما يتصل بها من المنطق , وجعلها مستعدة لأن تستنبط قواعد النحو وعلله وأقيسته.

واضع علم النحو:
لما كانت العلوم في الأمم لا تظهر فجأة، بل تأخذ الظهور رويدًا رويدًا حتى تستوي على سوقها، كان ذلك مدعاة لأن تغمُض نشأة بعض العلوم، وأن يختلط على الناس واضعوها المبكّرون.

وهذا نفسه ما حدث فيمن نسبت إليهم الخطوات الأولى في وضع علم النحو العربي, حيث اضطربت الروايات في نسبة وضع علم النحو للإمام عليtكما يرى الأنباري و القفطي .أو لأبي الأسود الدؤلي كما ذهب ابن سلّام وابن قتيبة والزجّاجي وأبو الطيب اللغوي وغيرهم.

أو كما أبعد بعضهم في نسبته لنصر بن عاصم ,أو عبد الرحمن بن هرمز,وهو لاشك اختيار بعيد عن الواقع.

* وأما نسبته لعلي بن أبي طالب فاعتمادًا على رواية أبي الأسود الدؤلي ؛إذ قال: "دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فوجدت في يده رقعة ؛ فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين ؟فقال: إني تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء –يعني الأعاجم-فأردت أن أضع شيئا يرجعون إليه ويعتمدون عليه, ثم ألقي إليّ الرقعة وفيها مكتوب : الكلام كله اسم وفعل وحرف فالاسم ما أنبأ عن المسمى, والفعل ما أنبئ به , والحرف ما أفاد معنى .وقال لي : انحُ هذا النحو , وأضف إليه ما وقع إليك ,واعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة: ظاهر ,ومضمر, واسم لا ظاهر ولا مضمر , وإنما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهر ولا مضمر " وتمضي الرواية فتذكر أن أبا الأسود جمع لعلي tأشياء وعرضها عليه ,كان فيها حروف النصب :إنّ ,و أنّ ,و ليت ,ولعل ,وكأنّ ,ولم يذكر أبو الأسود: ( لكنَّ) ؛ فقال له علي t:لمَ تركتها ؟ فقال: لم أحسبها منها؛ فقال: بل هي منها، فزدها فيها".

* أمّا من ينسبون وضع علم النحو إلى أبي الأسود الدؤلي نفسه؛ فيضطربون في السبب الذي حمله على وضعه : فمن قائل إنه سمع قارئًا يقرأ الآية الكريمة:" أن الله برئٌ من المشركين ورسولِه"- بكسر لام رسوله - فقال : ما ظننت أمر الناس يصل إلى هذا , واستأذن زيادًا بن أبيه - والي البصرة - في أن يضع للناس رسم العربية.

وقيل: بل وفد على زياد، فقال له: إني أرى العرب قد خالطت الأعاجم، وتغيرت ألسنتهم، أفتأذنُ لي أن أضع للعرب كلامًا يعرفون به كلامهم؟

وقيل: أنه رسمها – أي العربية - حين سمع ابنته تقول: ما أحسنُ السماء! وهي لا تريد الاستفهام بل التعجب؛ فقال لها قولي: ما أحسنَ السماءَ!

ويذكر بعض الرواة: أنه وضع أبواب التعجب والفاعل والمفعول به وغير ذلك من الأبواب، ويقول آخرون أنه وضع أبواب التعجب والاستفهام والعطف والنعت و ( إنَّ ) وأخواتها.

وقد يكون ذلك كما قال الدكتور/ شوقي ضيف في كتابه المدارس النحوية :" من صنع الشيعة , وكأنهم رأوا أن يضيفوا النحو إلى شيعي قديم , فارتفع به بعضهم إلى علي بن أبي طالب ,ووقف به آخرون عند أبي الأسود ".

فواقع الحال ودلائل العقل تنفي أن يكون واضعه عليًا بن أبي طالب أو أبا الأسود للأسباب التالية:

أولا - لأن المسألة لم تقف عند سطور أو بعض أبواب نحوية تذكر مجملة ,بل اتسعت لتصبح مقدمة أو رسالة صنّفها علي بن أبي طالب , وكأنّه لم يكن مشغولا حين ذهب إلى الكوفة بإعداد الجيوش لحرب معاوية ,ولا كان مشغولا بحرب الخوارج ؛ وإنما كان مشغولا بالنحو.

ثانيا - لأن طبائع الأشياء تنفي أن يكون قد وضع ذلك ؛لأن الرواية السابقة تحمل في تضاعيفها ما يقطع بانتحالها ؛ لما يجري فيها من تفريعات وتقسيمات منطقية لا تعقل أن تصدر عن علي t أو عن أحد معاصريه.

ثالثا - لأنّ الوضع والعبث من الرواة كان متزايدا في تلك الفترة , وربما ظنّ بعض الرواة أنّ أبا الأسود الدؤلي الذي وضع نقط وحركات أواخر الكلمات في القرآن الكريم هو واضع علم النحو أيضًا , فقد روي أنه اتخذ له كاتبا فطنا من بني عبد القيس , وقال له : إذا رأيتني قد فتحت شفتيّ بالحرف ؛ فأنقط نقطة فوقه على أعلاه , وإن ضممت شفتيّ فأنقط نقطة بين يدي الحرف , وإن كسرت شفتيّ فاجعل النقطة من تحت الحرف , فإن أتبعت ذلك شيئًا من ذلك غُنَّةً (تنوينا ) فاجعل النقطة نقطتين " وأتم أبو الأسود المصحف حتى آخره ,وكان هذا الصنيع الخطر سببا في أن يختلط الأمر على الرواة . 

فهذه الأسباب كلها تنفي نسبة علم النحو لعلي t أو لأبي الأسود ؛ إلا أننا لابد أن ننتبه إلى أن ما توصّل إليه أبو الأسود من نقط الإعراب , ثم توصّل إليه تلامذته وعلى رأسهم نصر بن عاصم من نقط الإعجام تمييزا لحروف القرآن المعجمة من الحروف المهملة , كان باعثا للبصرة للتساؤل عن أسباب هذا الإعراب , وتفسير ظواهره.كما كان طبيعيا أن يطلقوا على علامات النقط الخاصة بالإعراب أسماء تقرن بها,وقد اشتقوها من كلماته لكاتبه "فتحت شفتي وضممتهما وكسرتهما"فسموه نقط الفتحة والضمة والكسرة.

كما أنهم لاحظوا اختلافا في إعراب الأسماء حسب مواضعها من الكلام، فهي إذا ابتدأ بها المتكلم لزمها الرفع، إلا إذا تقدمتها إنّ و أخواتها، وإذا تلت فعلا كانت إما مرفوعة أو منصوبة، ولا يبعد أن يكونوا لاحظوا اختلافًا في كلمات اللغة وأن منها ما يقبل الحركات الثلاث بتغير حالته، وهو الأسماء المعربة, ومنها ما يلزم حركة واحدة وهو الأسماء المبنية .

فالأصل في كل علم أن تبدأ فيه نظرات متناثرة هنا وهناك ثم يتاح له من يصوغ هذه النظرات صياغة علمية،

وأول نحوي بصري نجده عنده طلائع ذلك هو عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وليس من تلاميذ أبي الأسود ,ولكنه من القرّاء.

ومعروف أنه لكي يُصاغ علم صياغة دقيقة لابد له من اطراد قواعده , وأن تقوم على الاستقراء الدقيق , وأن يكفل لها التعليل,وأن يصبح لكل قاعدة أصلًا مضبوطًا تُقاس عليه الجزيئات قياسًا دقيقًا , وكل ذلك نهض به ابن أبي إسحاق وتلاميذه البصريون.

سبب تسميته بالنحو:
روت كتب الأدب والتراجم على سبيل التعيين أنّ هذا العلم كان يسمى بالعربية في عصر أبي الأسود , قال ابن سلام في الطبقات : " وكان أول من استنّ العربية , وفتح بابها , وأنهج سبيلها , ووضع قياسها , أبو الأسود الدؤلي".

فالتسمية بالنحو بعد عصره ,إلا أنها لم تتجاوز الطبقة الثانية فقد اشتهرت عنها مؤلفات اتسمت بأنها نحوية ,وصُرِّح فيهاها باسم النحو.

أمّا سبب تسميته بالنحو فترجع إلى الرواية التي أسلفنا ذكرها من أنّ أبا الأسود عندما عرض على الإمام علي t ما وضعه , وأقرّه بقوله : " ما أحسن هذا النحو الذي نحوت " ؛ فآثر العلماء تسمية هذا العلم باسم النحو ؛ استبقاءً لكلمة الإمام التي يُراد بها أحد معاني النحو اللغوية.

نشأة النحو وأطواره:
مرَّ النحو العربي منذ نشوئه بمراحل أو أطوار متعددة بالإمكان تحديدها على النحو التالي :

أولًا - طور الوضع والتكوين:
وهذا الطور الذي استأثرت به البصرة صاحبة الفضل في وضعه وتعهده في نشأته والكوفة منصرفة عنه بما شغلها من رواية الأشعار والأخبار والنوادر زهاء قرن من الزمان .

فكان أول من نسب إلى هذا الطور أين أبي إسحاق الحضرمي ,الذي يقول فيه أبو الطيب :" وكان يقال عبد الله أعلم أهل البصرة , وأعقلهم ؛ ففرع النحو وقاسه " وهو الذي أرسيت قواعد النحو على يده , وفي هذا الطور نشأت حركة النقاش . وتتبع النصوص ,واستخراج الضوابط .

واستطاع نحاة هذا الطور التصنيف فدونت فيه بعض كتب مفيدة على يد تلامذة الحضرمي : فألف عيسى بن عمر الثقفي كتابيه في النحو :الجامع والإكمال ,ومثله أبو عمرو بن العلاء صاحب التصانيف الكثيرة ,ورجال هذه الطبقة أظلتهم الدولة العباسية جميعا عدا الحضرمي الذي مات سنة 117هـ ,ولم ينته هذا الطور حتى وفّق العلماء إلى وضع طائفة كبيرة من أصول النحو , فتكونت لديهم فكرة التعليل التي كان أول متجه لها ابن أبي إسحاق ,كما أنه أول من نشط للقياس , وكانت كتبهم مزدوجا من النحو والصرف واللغة والأدب لأن هذه الفروع كانت متداخلة.

ثانيا - طور النشوء والنمو: 
ويبدأ من عهد الخليل بن أحمد البصري , والرؤاسي الكوفي , إلى أول عصر المازني وابن السكيت , ويعدُّ هذا التطور بداية الاشتراك بين البلدين ( البصرة والكوفة ) في النهوض بالنحو, فقد تلاقت فيه الطبقة الثالثة البصرية برئاسة الخليل والأولى الكوفية برئاسة الرؤاسي , وكذا بعدهما طبقتان من كل من البلدين , ويقصد بالنحو في هذا الطور معناه العام الذي يشمل مباحث الصرف , أمّا مباحث اللغة والأدب والأخبار فقد تقلصت في كتب النحو .

ومنذ بداية هذا الطور أخذ العلماء في كتب النحو اتجاهًا جديدًا ,إذ نشطوا في الاستقراء للمأثور عن العرب وإكمال الفكر واستخراج القواعد , وكان مبعث ذلك النشاط هو التنافس البلدي بين البصرة والكوفة , فالخليل بعد أن جاب بوادي البصرة والكوفة وتهامة يعود إلى البصرة ويستجمع كل ما سمع , ويفرغ للبحث حتى جمع أصول النحو وفرع تفاريعه , وساق الشواهد وعلل الأحكام , إلا أنه اكتفى عن تدوينه بطلبته ,أمّا يونس البصري فقصر جهده على التلقي عنه , وكانت له حلقات دراسة يعرفها الجميع , أمّا الرؤاسي الكوفي فقد عاد إلى الكوفة بعد أن تلقى النحو عن البصريين , والتقى بعمه معاذ بن مسلم الهرّاء الذي انشغل بالعمل في الأبنية والتمارين ؛ فغلبت عليه الناحية الصرفية التي التفت إليها الكوفيون وسبقوا بها البصريين , فكان أول مؤلف تداولوه بينهم كتاب "الفيصل" للرؤاسي , وفي هذا الطور تكوّن على يد الخليل ومن معه , و الرؤاسي ومن معه في كل بلد من البلدين مدرسة خاصة لها علم وتتابعت الطبقات في كل مدرسة , فظهر في البصرة سيبويه الذي أبدع كتابه في النحو, وأخرج الكسائي مؤلفات استفاد منها الناس , ثم جاء الأخفش ويقابله الفراء عند الكوفيين ؛ وقد صنّف كتبا طوالا في النحو , وظهرت في هذا الطور أيضًا المناظرات بين أعلام البلدين , وكان لها أثرها الفعّال في إشعال نار الاجتهاد بينهما.

ولم ينقض هذا الطور حتى قطع النحو فيه شوطًا كبيرًا شارف فيه النهاية , وكثرت فيه المؤلفات , نحو : كتاب سيبويه ,وكتاب الرؤاسي ( التصغير ) ,وكتاب الكسائي (المصادر ) , وكتاب الفرّاء ( فَعَلَ وأَفْعَل )

ثالثا - طور النضوج والكمال:
يبدأ من عهد المازني البصري, وابن السكيت الكوفي , إلى آخر عصر المبرد البصري , وثعلب الكوفي. 

وعمل نحاة هذه الفترة على إكمال ما فات السابقين , وشرح مجمل كلامهم , وتهذيب تعريفاتهم , وخلـّصوا النحو من الصرف , وأول من سلك هذا السبيل المازني الذي ألّف في الصرف وحده .

ولم ينته هذا الطور حتى فاضت الدراسات النحوية في البصرة والكوفة وبغداد , وكانت نهاية هذا الطور في أخريات القرن الثالث , بعد أن توافد الفريقان على بغداد لتبدأ الحزبية في الاضمحلال نتيجة توحيد الوطن.

رابعا - طور الترجيح ( بغدادي ):
كان التمهيد لهذا الطور على أيدي الخالطين, وأساسه المفاضلة بين المذهب البصري والكوفي , وإيثار المختار منهما .

وقد استمر هذا المذهب البغدادي مدة طويلة من الزمن , إلا أن اضطراب الأحوال في بغداد دعا أهل العلم إلى أن يتقدموا في البلاد شرقًا وغربًا ؛ مع ضعف الخلافة وتقسم أقطارها بين دول متعددة ؛ فتوزع العلماء في مختلف هذه الأقاليم : الشام ومصر والمغرب والأندلس , وقام علماء هذه الدول الحديثة بالاشتغال كلٌ في قطره وأخذ المذهب البغدادي يتلاشى رويدًا.

المدارس النحوية:

1-  المدرسة البصرية: لقد تَشدَّدت المدرسةُ البصرية تشدُّدًا كبيرًا في رواية الأشعار والأمثال والخُطب، واشترطوا في الشواهد المعتَمَدة لوضع القواعد أن تكون جاريةً على ألسنة العرب، وكثيرةَ الاستعمال في كلامهم؛ بحيث تُمثِّل اللغة الفصحى خيرَ تمثيلٍ، وحينما يواجهون بعض النصوص التي تخالف قواعدهم، كانوا يرمونها بالشذوذ أو يتأوَّلونها حتى تنطبق عليها قواعدهم.

2- المدرسة الكوفية: اتسع أقطاب المدرسة الكوفية في الرواية عن جميع العرب بدوًا وحضرًا، واعتدُّوا بأقوال وأشعار المتحضِّرين من العرب ممن سكنوا حواضر العراق، واعتمدوا الأشعار والأقوال الشاذة التي سمِعوها مِن الفصحاء العرب، ووصَفها البصريون بالشذوذ.

3- المدرسة البغدادية: يرى الدكتور مهدي المخزومي أن المدرسة البغدادية نشأت في الوقت الذي كان الصراع فيه قائمًا بين المبرد وثعلب، وقال: إن طبقةً مِن الدارسين أخذت عن شيوخ المدرستين فعرَفوا المنهجين، واستفادوا من الفئتينِ، ثم قرَّر أن المذهب البغدادي ليس إلا مذهبًا انتخابيًّا، فيه الخصائص المنهجية للمدرستين جميعًا.

4- المدرسة الأندلسية: لعل مِن أوائل المعاصرين الذين تحدَّثوا عن وجود مدرسة أندلسية في النحوِ الأستاذُ الدكتور شوقي ضيف، وذلك في كتابه المعروف "المدارس النحوية"، يقول الدكتور شوقي ضيف: "وأولُ نحاة الأندلس بالمعنى الدقيق لكلمة نحوي؛ جودي بن عثمان الموروري، الذي رحل إلى المشرق وتتلمذ للكسائي والفراء، وهو أول مَن أدخل إلى موطنه كتب الكوفيين، وأول مَن صنف به في النحو، وما زال يدرسه لطلابه حتى توفي (سنة 198 هـ)."

5- المدرسة المصرية: تشمل هذه المدرسة الدراسات النَّحوية في مصر والشام، وقد نشأت هذه المدرسةُ بعد أن زالت دُوَيلات العرب في الأندلس، واستولى الفرنجة على غرناطة، ورحل السكانُ العرب مِن هناك إلى مصر والشام والمغرب والجزائر وتونس، فأصبحت مصر والشام ملجأً للعلماء.

الخاتمة:
النحو علم شريف وجوهرة نفيسة من بحر اللغة العربية الأم ، به يقوّم اللسان ، ونفهم الأحاديث النبوية ، وبالرغم من أنه يبدو للبعض صعبا ومعقدا في مظهره لكنه يتطلب فقط تركيزا وحبا للغتنا الغالية ، فنحن لا نطمح إلى أن نكون علماء أو نحاة ، ولا أن ندرك جميع المسائل النحوية ، بل بالقدر الذي يجعلنا نقرأ القرآن بشكل صحيح فلا نظلم كلمة منه أو حرفا وذلك أضعف الإيمان.


الوسوم:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *